الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بِسْمُ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}. اخْتَلَفَ أَهْلُالتَّأْوِيلِ فَى مَعْنَى قَوْلِهِ (حم)فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ حُرُوفٌ مُقَطَّعَةٌ مِنِ اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَهُوَ الْحَاءُ وَالْمِيمُ مِنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوَيْهِ الْمَرُوزِيُّ قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الر، وَحم، وَن، حُرُوفُ الرَّحْمَنِ مُقَطَّعَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ، وَهُوَاسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: (حم): قَسَمٌ أَقْسَمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ (حم): مِنْ حُرُوفِ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (حم) قَالَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ حُرُوفُ هِجَاءٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ اسْمٌ، وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِ شُرَيْحِ بْنِ أَوْفَى الْعَبْسِيِّ: يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ *** فَهَلَّا تَلَا حم قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَيَقُولُ الْكُمَيْتُ: وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً *** تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْرِبُ وَحُدِّثْتُ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَّهُ قَالَ: قَالَ يُونُسُ، يَعْنِي الْجَرْمِيَّ: وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فَهُوَ مُنْكَرٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ السُّورَةَ (حم) سَاكِنَةُ الْحُرُوفِ، فَخُرِّجَتْ مَخْرَجَ التَّهَجِّي، وَهَذِهِ أَسْمَاءُ سُوَرٍ خَرَجَتْ مُتَحَرِّكَاتٍ، وَإِذَا سُمِّيَتْ سُورَةٌ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْرُفِ الْمَجْزُومَةِ دَخْلَهُ الْإِعْرَابُ. وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي أَخَوَاتِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ، فِي قَوْلِهِ: (الم)، فَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إِذْ كَانَ الْقَوْلُ فِي حم، وَجَمِيعِ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَعْنِي حُرُوفَ التَّهَجِّي قَوْلًا وَاحِدًا. وَقَوْلُهُ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} يَقُولُ اللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، الْعَلِيمِ بَمَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَغَيْرِهَا تَنْزِيلُ هَذَا الْكِتَابِ؛ فَالتَّنْزِيلُ مَرْفُوعٌ بِقَوْلِهِ: (مِنَ اللَّهِ). وَفِي قَوْلِهِ: {غَافِرِ الذَّنْبِ} وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَكُونَ بِمَعْنَى يَغْفِرُ ذُنُوبَ الْعِبَادِ، وَإِذَا أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى، كَانَ خَفْضُ غَافِرٍ وَقَابِلٍ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا مِنْ نِيَّةِ تَكْرِيرِ"مِنْ"، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، مِنْ غَافِرِ الذَّنْبِ، وَقَابِلِ التَّوْبِ، لِأَنَّ غَافِرَ الذَّنْبِ نَكِرَةٌ، وَلَيْسَ بِالْأَفْصَحِ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ، وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ أَجْرَى فِي إِعْرَابِهِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ عَلَى إِعْرَابِ الْأَوَّلِ كَالنَّعْتِ لَهُ، لِوُقُوعِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {ذِي الطَّوْلِ} وَهُوَ مَعْرِفَةٌ.. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَتْبَعَ إِعْرَابَهُ وَهُوَ نَكِرَةٌ إِعْرَابَ الْأَوَّلِ، إِذْ كَانَ مَدْحًا، وَكَانَ الْمَدْحُ يَتْبَعُ إِعْرَابُهُ مَا قَبْلَهُ أَحْيَانًا، وَيَعْدِلُ بِهِ عَنْ إِعْرَابِ الْأَوَّلِ أَحْيَانًا بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: لَا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ *** سَمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزُرِ النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ *** وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الْأُزُرِ وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فَرَفَعَ "فَعَّالٌ" وَهُوَ نَكِرَةٌ مَحْضَةٌ، وَأَتْبَعَ إِعْرَابَ الْغَفُورِ الْوَدُودَ؛ وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِ تَعَالَى، إِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ لِذُنُوبِ الْعِبَادِ غَفُورًا مِنْ قَبْلِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي حَالِ نُزُولِهَا، وَمِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً وَنَعْتًا عَلَى الصِّحَّةِ. وَقَالَ: {غَافِرِ الذَّنْبِ} وَلَمْ يَقُلِ الذُّنُوبَ، لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْفِعْلُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} فَإِنَّ التَّوْبَ قَدْ يَكُونُ جَمْعَ تَوْبَةٍ، كَمَا يُجْمَعُ الدَّوْمَةُ دَوْمًا وَالْعَوْمَةُ عَوْمًا مِنْ عَوْمَةِ السَّفِينَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: عَوْمَ السَّفِينَ فَلَمَّا حَالَ دُونَهُمُ *** وَقَدْ يَكُونُ مَصْدَرَ تَابَ يَتُوبُ تُوبَا. وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمْرَ، فَقَالَ: إِنِّي قَتَلْتُ، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، اعْمَلْ وَلَا تَيْأَسْ، ثُمَّ قَرَأَ: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ}. وَقَوْلُهُ: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: شَدِيدٌ عِقَابُهُ لِمَنْ عَاقَبَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِصْيَانِ لَهُ، فَلَا تَتَّكِلُوا عَلَى سِعَةِ رَحْمَتِهِ، وَلَكِنْ كُونُوا مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ، بِاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، فَإِنَّهُ كَمَا أَنْ لَا يُؤَيِّسَ أَهْلُ الْإِجْرَامِ وَالْآثَامِ مِنْ عَفْوِهِ، وَقَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ مِنْ جُرْمِهِ، كَذَلِكَ لَا يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَانْتِقَامِهِ مِنْهُمْ بِمَا اسْتَحَلُّوا مِنْ مَحَارِمِهِ، وَرَكِبُوا مِنْ مَعَاصِيهِ. وَقَوْلُهُ: {ذِي الطَّوْلِ} يَقُولُ: ذِي الْفَضْلِ وَالنِّعَمِ الْمَبْسُوطَةِ عَلَى مَنْ شَاءَ مَنْ خَلْقِهِ؛ يُقَالُ مِنْهُ: إِنَّ فَلَانَا لَذُو طُولٍ عَلَى أَصْحَابِهِ، إِذَا كَانَ ذَا فَضْلٍ عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {ذِي الطَّوْلِ} يَقُولُ: ذِي السِّعَةِ وَالْغِنَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {ذِي الطَّوْلِ} الْغِنَى. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {ذِي الطَّوْلِ}: أَيْ ذِي النِّعَمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الطُّوْلُ: الْقُدْرَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فَى قَوْلِهِ {ذِي الطَّوْلِ} قَالَ: الطَّوْلُ الْقُدْرَةُ، ذَاكَ الطَّوْلُ. وَقَوْلُهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} يَقُولُ: لَا مَعْبُودَ تَصْلُحُ لَهُ الْعِبَادَةُ إِلَّا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ، الَّذِي صِفَتُهُ مَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، فَلَا تَعْبُدُوا شَيْئًا سِوَاهُ (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: إِلَى اللَّهِ مَصِيرُكُمْ وَمَرْجِعُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِيَّاهُ فَاعْبُدُوا، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْءٌ عَبَدْتُمُوهُ عِنْدَ ذَلِكَ سِوَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: مَا يُخَاصِمُ فِي حُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِالْإِنْكَارِ لَهَا، إِلَّا الَّذِينَ جَحَدُوا تَوْحِيدَهُ. وَقَوْلُهُ: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَلَا يَخْدَعُكَ يَا مُحَمَّدُ تَصَرُّفُهُمْ فِي الْبِلَادِ وَبَقَاؤُهُمْ وَمُكْثُهُمْ فِيهَا، مَعَ كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَتَحْسَبُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أُمْهِلُوا وَتَقَلَّبُوا، فَتَصَرَّفُوا فِي الْبِلَادِ مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَلَمْ يُعَاجَلُوا بِالنِّقْمَةِ وَالْعَذَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ فَإِنَّا لَمْ نُمْهِلْهُمْ لِذَلِكَ، وَلَكِنْ لِيَبْلُغَ الْكُتَابُ أَجْلَهُ، وَلِتَحِقَّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، عَذَابِ رَبِّكَ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} أَسْفَارُهُمْ فِيهَا، وَمَجِيئُهُمْ وَذِهَابُهُمْ. ثُمَّ قَصَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَصَصَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ جِدَالِهِمْ لِرُسُلِهِ عَلَى مَثْلِ الَّذِي عَلَيْهِ قَوَّمُهُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّهُ أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ عِنْدَ بُلُوغِهِمْ أَمُدَّهُمْ بَعْدَ إِعْذَارِ رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ، وَإِنْذَارِهِمْ بَأْسَهُ مَا قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ إِعْلَامًا مِنْهُ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ، أَنَّ سُنَّتَهُ فِي قَوْمِهِ الَّذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَ أُولَئِكَ فِي تَكْذِيبِهِ وَجِدَالِهِ سُنَّتُهُ مِنْ إِحْلَالِ نِقْمَتِهِ بِهِمْ، وَسَطْوَتِهِ بِهِمْ، فَقَالَ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: كَذَّبَتْ قَبْلَ قَوْمِكَ الْمُكَذِّبِينَ لِرِسَالَتِكَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا الْمُجَادَلِيكَ بِالْبَاطِلِ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابِ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا وَتَجَمَّعُوا عَلَى رُسُلِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ لَهَا، كَعَادٍ وَثَمُودَ، وَقَوْمَ لُوطٍ، وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَأَشْبَاهِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} قَالَ: الْكُفَّارُ. وَقَوْلُهُ: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا، الْمُتَحَزِّبَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهَا، بِرَسُولِهِمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ لِيَأْخُذُوهُ فَيَقْتُلُوهُ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ}: أَيْ لِيَقْتُلُوهُ، وَقِيلَ بِرَسُولِهِمْ؛ وَقَدْ قِيلَ: كُلُّ أُمَّةٍ، فَوُجِّهَتِ الْهَاءُ وَالْمِيمُ إِلَى الرَّجُلِ دُونَ لَفْظِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ"بِرَسُولِهَا"، يَعْنِي بِرَسُولِ الْأُمَّةِ. وَقَوْلُهُ: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} يَقُولُ: وَخَاصَمُوا رَسُولَهُمْ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْخُصُومَةِ لِيُبْطِلُوا بِجِدَالِهِمْ إِيَّاهُ وَخُصُومَتِهِمْ لَهُ الْحَقَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، مِنَ الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، كَمَا يُخَاصِمُكَ كَفَّارُ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ بِالْبَاطِلِ. وَقَوْلُهُ: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَأَخَذَتِ الَّذِينَ هَمُّوا بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ بِالْعَذَابِ مِنْ عِنْدِي، فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِي إِيَّاهُمْ، أَلَمْ أُهْلِكْهُمْ فَأَجْعَلَهُمْ لِلْخَلْقِ عِبْرَةً، وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ عِظَةً؟ وَأَجْعَلُ دِيَارَهُمْ وَمَسَاكِنَهُمْ مِنْهُمْ خَلَاءً، وَلِلْوُحُوشِ ثَوَاءً. وَقَدْ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} قَالَ: شَدِيدٌ وَاللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَكَمَا حَقَّ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا الَّتِي قَصَصْتُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ قَصَصَهَا عَذَابِي، وَحَلَّ بِهَا عِقَابِي بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَجِدَالِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالْبَاطِلِ، لِيَدْحَضُوا بِهِ الْحَقَّ، كَذَلِكَ وَجَبَتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مَنْ قَوْمِكَ، الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَوْضِعِ قَوْلِهِ (أَنَّهُمْ)، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ: أَيْ لِأَنَّهُمْ، أَوْ بِأَنَّهُمْ، وَلَيْسَ أَنَّهُمْ فِي مَوْضِعِ مَفْعُولٍ لَيْسَ مِثْلَ قَوْلِكَ: أَحُقِّقَتْ أَنَّهُمْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَيْضًا أَحُقِّقَتْ، لِأَنَّهُمْ. وَكَانَ غَيْرُهُ يَقُولُ: "أَنَّهُمْ" بَدَلٌ مِنَ الْكَلِمَةِ، كَأَنَّهُ حَقَّتِ الْكَلِمَةُ حَقًّا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنَّ قَوْلَهُ"أَنَّهُمْ" تَرْجَمَةٌ عَنِ الْكَلِمَةِ، بِمَعْنَى: وَكَذَلِكَ حَقَّ عَلَيْهِمْ عَذَابُ النَّارِ، الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ الْكُفْرِ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ عَرْشَ اللَّهِ مِنْ مَلَائِكَتِهِيَسْبِّحُونَ بِحَمْدِهِ، وَمَنْ حَوْلَ عَرْشِهِ، مِمَّنْ يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يَقُولُ: يَصَلُّونَ لِرَبِّهِمْ بِحَمْدِهِ وَشُكْرِهِ (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) يَقُولُ: وَيُقِرُّونَ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ لَهُمْ سِوَاهُ، وَيَشْهَدُونَ بِذَلِكَ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} يَقُولُ: وَيَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ أَنْ يَغْفِرَ لِلَّذِينِ أَقَرُّوا بِمِثْلِ إِقْرَارِهِمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ ذُنُوبَهُمْ، فَيُعْفُوَهَا عَنْهُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} لِأَهْلِ لَا الْهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ يَقُولُونَ؛ وَمَعْنَى الْكَلَامِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا يَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}: وَسِعَتْ رَحْمَتُكَ وَعِلْمُكَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَعَلِمْتَ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ شَيْءٌ، وَرَحِمْتَ خَلْقَكَ، وَوَسِعْتَهُمْ بِرَحْمَتِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ نَصْبِ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: انْتِصَابُ ذَلِكَ كَانْتِصَابِ لَكَ مِثْلُهُ عَبْدًا، لِأَنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ، وَالْفَاعِلُ التَّاءُ، وَجَاءَ بِالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ تَفْسِيرًا، وَقَدْ شُغِلَتْ عَنْهُمَا الْفِعْلَُ كَمَا شُغِلَتِ الْمِثْلُ بِالْهَاءِ، فَلِذَلِكَ نَصَبَتْهُ تَشْبِيهًا بِالْمَفْعُولِ بَعْدَ الْفَاعِلِ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مِنَ الْمَنْقُولِ، وَهُوَ مُفَسِّرٌ، وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ وَعِلْمُهُ، وَوَسِعَ هُوَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً، كَمَا تَقُولُ: طَابَتْ بِهِ نَفْسِي، طِبْتَ بِهِ نَفْسًا،. قَالَ: أَمَا لَكَ مِثْلُهُ عَبْدًا، فَإِنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعْلُومَةً مِثْلَ عِنْدِي رَطْلٌ زَيْتًا، وَالْمِثْلُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَكِنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَبْدُ نَكِرَةٌ، فَلِذَلِكَ نُصِبَ الْعَبْدُ، وَلَهُ أَنْ يُرْفَعَ، وَاسْتَشْهَدَ لِقِيلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: مَا فِي مَعَدٍّ وَالْقَبَائِلِ كُلِّهَا *** قَحْطَانُ مِثْلُكَ وَاحِدٌ مَعْدُودُ وَقَالَ: رَدَّ "الوَاحِدَ" عَلَى"مِثْلِ" لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ، قَالَ: وَلَوْ قُلْتَ: مَا مِثْلُكَ رَجُلٌ، وَمِثْلُكَ رَجُلٍ، وَمَثْلُكَ رَجُلًا جَازَ، لِأَنَّ مِثْلَ يَكُونُ نَكِرَةً، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا مَعْرِفَةً. وَقَوْلُهُ: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} يَقُولُ: فَاصْفَحْ عَنْ جُرْمِ مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ بِكَ مِنْ عِبَادِكَ، فَرَجَعَ إِلَى تَوْحِيدِكَ، وَاتَّبَعَ أَمْرَكَ وَنَهْيَكَ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} مِنَ الشِّرْكِ. وَقَوْلُهُ: {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} يَقُولُ: وَسَلَكُوا الطَّرِيقَ الَّذِي أَمَرْتَهُمْ أَنْ يَسْلُكُوهُ، وَلَزِمُوا الْمِنْهَاجَ الَّذِي أَمَرْتَهُمْ بِلُزُومِهِ، وَذَلِكَ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ}: أَيْ طَاعَتَكَ وَقَوْلُهُ: {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} يَقُولُ: وَاصْرِفْ عَنِ الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الشِّرْكِ، وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ عَذَابَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبِرًا عَنْ دُعَاءِ مَلَائِكَتِهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ، تَقُولُ: يَا {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ} يَعْنِي: بَسَاتِينَ إِقَامَةٍ {الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} يَعْنِي الَّتِي وَعَدْتَ أَهْلَ الْإِنَابَةِ إِلَى طَاعَتِكَ أَنْ تُدْخِلَهُمُوهَا {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} يَقُولُ: وَأَدْخِلْ مَعَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَابُوا {وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} جَنَّاتِ عَدْنٍ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ، فَعَمِلَ بِمَا يُرْضِيكَ عَنْهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا، وَذُكِرَ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ الرَّجُلِ أَبَوَاهُ وَوَلَدُهُ وَزَوْجَتُهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَمَلَهُ بِفَضْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ. كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ الْعِجْلِيُّ قَالَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ: يَدْخُلُ الرَّجُلُ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: أَيْنَ أَبِي، أَيْنَ أُمِّي، أَيْنَ وَلَدِي، أَيْنَ زَوْجَتِي، فَيُقَالُ: لَمْ يَعْمَلُوا مِثْلَ عَمَلِكَ، فَيَقُولُ: كُنْتُ أَعْمَلُ لِي وَلَهُمْ، فَيُقَالُ: أَدْخِلُوهُمُ الْجَنَّةَ؛ ثُمَّ قَرَأَ {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}. فَمَنْ إِذَنْ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ (وَأَدْخِلْهُمْ) وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي وَعَدْتَهُمْ {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يَقُولُ: إِنَّكَ أَنْتَ يَا رَبَّنَا الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. يَعْنِي- تَعَالَى ذِكْرُهُ- بِقَوْلِهِ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ مَلَائِكَتِهِ: وَقِهِمُ: اصْرِفْ عَنْهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا أَتَوْهَا قَبْلَ تَوْبَتِهِمْ وَإِنَابَتِهِمْ، يَقُولُونَ: لَا تُؤَاخِذْهُمْ بِذَلِكَ، فَتُعَذِّبَهُمْ بِهِ {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} يَقُولُ: وَمَنْ تَصْرِفُ عَنْهُ سُوءَ عَاقِبَةِ سَيِّئَاتِهِ بِذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ رَحِمْتَهُ، فَنَجَّيْتَهُ مِنْ عَذَابِكَ {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} لِأَنَّهُ مَنْ نَجَا مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى السَّيِّئَاتِ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ}: أَيِ الْعَذَابَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا مَعْمَرُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: ثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَعَنْ مُطَرِّفٍ قَالَ: وَجَدْنَا أَنْصَحَ الْعِبَادِ لِلْعِبَادِ مَلَائِكَةً وَأَغَشَّ الْعِبَادِ لِلْعِبَادِ الشَّيَاطِينَ، وَتَلَا {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}... الْآيَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ مُطَرِّفٌ: وَجَدْنَا أَغَشَّ عِبَادِ اللَّهِ لِعِبَادِ اللَّهِ الشَّيَاطِينَ، وَوَجَدْنَا أَنْصَحَ عِبَادِ اللَّهِ لِعِبَادِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْإِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ يُنَادَوْنَ فِي النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا دَخَلُوهَا، فَمَقَتُوا بِدُخُولِهِمُوهَا أَنْفُسَهُمْ حِينَ عَايَنُوا مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ فِي الدُّنْيَا، إِذْ تَدْعُونَ فِيهَا لِلْإِيمَانِ بِاللَّهِ فَتَكْفُرُونَ، أَكْبَرُ مَنْ مَقْتِكُمُ الْيَوْمَ أَنْفُسَكُمْ لِمَا حَلَّ بِكُمْ مَنْ سَخِطَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ} قَالَ: مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ حِينَ رَأَوْا أَعْمَالَهُمْ، وَمَقَتَ اللَّهُ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا، إِذْ يَدْعُونَ إِلَى الْإِيمَانِ، فَيَكْفُرُونَ أَكْبَرَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} يَقُولُ: لَمَقْتُ اللَّهِ أَهْلَ الضَّلَالَةِ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ فِي الدُّنْيَا، فَتَرَكُوهُ، وَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا، أَكْبَرُ مِمَّا مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ، حِينَ عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فِي النَّارِ {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ} فِي الدُّنْيَا (فَتَكْفُرُونَ). حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ}... الْآيَةَ، قَالَ: لِمَّا دَخَلُوا النَّارَ مَقَتُُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ الَّتِي رَكِبُوهَا، فَنُودُوا: إِنَّ مَقْتَ اللَّهِ إِيَّاكُمْ حِينَ دَعَاكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَشَدُّ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ حِينَ دَخَلْتُمُ النَّارَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ دُخُولِ هَذِهِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ} فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: هِيَ لَامُ الِابْتِدَاءِ، كَانَ يُنَادَوْنَ يُقَالُ لَهُمْ، لِأَنَّ فِي النِّدَاءِ قَوْلٌ. قَالَ: وَمِثْلُهُ فِي الْإِعْرَابِ يُقَالُ: لَزَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْ عَمْرٍو. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: الْمَعْنَى فِيهِ: يُنَادَوْنَ إِنَّ مَقْتَ اللَّهِ إِيَّاكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّامَ تَكْفِي مِنْ أَنْ تَقُولَ فِي الْكَلَامِ: نَادَيْتُ أَنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} اللَّامُ بِمَنْزِلَةِ"إِنَّ" فِي كُلِّ كَلَامٍ ضَارَعَ الْقَوْلَ مِثْلُ يُنَادُونَ وَيُخْبِرُونَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُ غَيْرَهُ مِنْهُمْ: هَذِهِ لَامُ الْيَمِينِ، تَدْخُلُ مَعَ الْحِكَايَةِ، وَمَا ضَارَعَ الْحِكَايَةَ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا ائْتِنَافٌ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ فِي جَوَّابَاتِ الْإِيمَانِ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ الْيَمِينِ، لِأَنَّ اللَّامَ كَانَتْ مَعَهَا النُّونُ أَوْ لَمْ تَكُنْ، فَاكْتُفِيَ بِهَا مِنَ الْيَمِينِ، لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إِلَّا مَعَهَا. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: دَخَلَتْ لِتُؤْذِنَ أَنَّ مَا بَعْدَهَا ائْتِنَافٌ وَأَنَّهَا لَامُ الْيَمِينِ. وَقَوْلُهُ: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَكِنَّا نَذْكُرُ بَعْضَ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قَالَ: كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَمَاتَهُمُ الْمَوْتَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُمَا حَيَاتَانِ وَمَوْتَتَانِ. وَحُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فَى قَوْلِهِ: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} هُوَ قَوْلُ اللَّهِ {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا}... الْآيَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قَالَ: هِيَ كَالَّتِي فِي الْبَقَرَةِ {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}. حَدَّثَنِي أَبُو حُصَيْنٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ قَالَ: ثَنَا عَبْثَرُ قَالَ: ثَنَا حَصَيْنٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتِنَا اثْنَتَيْنِ} قَالَ: خَلَقْتَنَا وَلَمْ نَكُنْ شَيْئًا ثُمَّ أَمَتَّنَا، ثُمَّ أَحْيَيْتَنَا. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَِيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قَالُوا: كَانُوا أَمْوَاتًا فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ فِيهِ مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتِنَا اثْنَتَيْنِ} قَالَ: أُمِيتُوا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أُحْيَوْا فِي قُبُورِهِمْ، فَسُئِلُوا أَوْ خُوطِبُوا، ثُمَّ أُمِيتُوا فِي قُبُورِهِمْ، ثُمَّ أُحْيَوْا فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} قَالَ: خَلَقَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ حِينَ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، وَقَرَأَ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ (الْمُبْطِلُونَ) قَالَ: فَنَسَّاهُمُ الْفِعْلَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، قَالَ: وَانْتَزَعَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ الْقُصْرَى، فَخَلَقَ مِنْهُ حَوَّاءَ، ذِكْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} قَالَ: بَثَّ مِنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْحَامِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَقَرَأَ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} قَالَ: خَلْقًا بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَمَّا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ، أَمَاتَهُمْ ثُمَّ خَلَقَهُمْ فِي الْأَرْحَامِ، ثُمَّ أَمَاتَهُمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتِنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا}، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} قَالَ: يَوْمَئِذٍ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}. وَقَوْلَهُ: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} يَقُولُ: فَأَقْرَرْنَا بِمَا عَمِلْنَا مِنَ الذُّنُوبِ فِي الدُّنْيَا {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} يَقُولُ: فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنَ النَّارِ لَنَا سَبِيلٌ، لِنَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَنَعْمَلُ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فِيهَا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}: فَهَلْ إِلَى كَرَّةٍ إِلَى الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}. وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ مِنْ ذِكْرِهِ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ: فَأَجِيبُوا أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ هَذَا الَّذِي لَكَمَ مِنَ الْعَذَابِ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ}، فَأَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْأُلُوهَةُ لَهُ خَالِصَةً، وَقُلْتُمْ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}. {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} يَقُولُ: وَإِنْ يَجْعَلْ لِلَّهِ شَرِيكٌ تُصَدِّقُوا مِنْ جَعْلِ ذَلِكَ لَهُ {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} يَقُولُ: فَالْقَضَاءُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْكَبِيرُ الَّذِي كَلُّ شَيْءٌ دُونَهُ مُتَصَاغِرًا لَهُ الْيَوْمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًاوَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ فَادْعُوَا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: الَّذِي يُرِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ حُجَجَهُ وَأَدِلَّتَهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} يَقُولُ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ أَرْزَاقِكُمْ مِنَ السَّمَاءِ بِإِدْرَارِ الْغَيْثِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ أَقْوَاتُكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَغِذَاءُ أَنْعَامِكُمْ عَلَيْكُمْ {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} يَقُولُ: وَمَا يَتَذَكَّرُ حُجَجَ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا أَدِلَّةً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، فَيَعْتَبِرُ بِهَا وَيَتَّعِظُ، وَيَعْلَمُ حَقِيقَةَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، إِلَّا مَنْ يُنِيبُ، يَقُولُ: إِلَّا مَنْ يَرْجِعُ إِلَى تَوْحِيدِهِ، وَيُقْبِلُ عَلَى طَاعَتِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} قَالَ: مَنْ يَقْبِلُ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {فَادْعُوَا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، فَاعْبُدُوا اللَّهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الطَّاعَةَ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ شَيْئًا مِمَّا دُونَهُ {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} يَقُولُ: وَلَوْ كَرِهَ عِبَادَتَكُمْ إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الطَّاعَةَ الْكَافِرُونَ الْمُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ الْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: هُوَ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ؛ وَرَفْعُ قَوْلِهِ: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} عَلَى الِابْتِدَاءِ؛ وَلَوْ جَاءَ نَصْبًا عَلَى الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: فَادْعُوَا اللَّهَ، كَانَ صَوَابًا. {ذُو الْعَرْشِ} يَقُولُ: ذُو السَّرِيرِ الْمُحِيطِ بِمَا دُونَهُ. وَقَوْلُهُ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يَقُولُ: يُنَزِّلُ الْوَحْيَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَعْنَى الرُّوحِفِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ الْوَحْيَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} قَالَ: الْوَحْيُ مِنْ أَمْرِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَصَمُّ قَالَ: ثَنَا عِبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} قَالَ: يَعْنِي بِالرُّوحِ: الْكِتَابَ يُنَزِّلُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وَقَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} قَالَ: هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ الرُّوحُ، أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ، وَجِبْرِيلُ رُوحٌ نَزَلَ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَرَأَ: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} قَالَ. فَالْكُتُبُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ هِيَ الرُّوحُ، لِيُنْذِرَ بِهَا مَا قَالَ اللَّهُ يَوْمَ التَّلَاقِ، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} قَالَ: الرُّوحُ: الْقُرْآنُ، كَانَ أَبِي يَقُولُهُ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَقُومُونَ لَهُ صَفًّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حِينَ يَنْزِلُ جَلَّ جَلَالُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهِ النُّبُوَّةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} قَالَ: النُّبُوَّةَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ. وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُ أَصْحَابِهَا بِهَا. وَقَوْلُهُ: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} يَقُولُ: لِيُنْذِرَ مَنْ يُلْقِي الرُّوحَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ بِإِنْذَارِهِ مِنْ خَلْقِهِ عَذَابَ يَوْمٍ تَلْتَقِي فِيهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، وَهُوَ يَوْمُ التَّلَاقِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {يَوْمَ التَّلَاقِ} مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِيَوْم التلاق، عَظَّمَهُ اللَّهُ، وَحَذَّرَهُ عِبَادَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {يَوْمَ التَّلَاقِ}: يَوْمَ تَلْتَقِي فِيهِ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، وَالْخَالِقِ وَالْخَلْقِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {يَوْمَ التَّلَاقِ} تَلَقِّي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ {يَوْمَ التَّلَاقِ} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: يَوْمُ تَتَلَاقَى الْعِبَادُ. وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} يَعْنِي بِقَوْلِهِ {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} يَعْنِي الْمُنْذَرِينَ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ لِيُنْذِرُوهُمْ وَهُمْ ظَاهِرُونَ يَعْنِي لِلنَّاظِرِينَ لَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ، وَلَا يَسْتُرُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ سَاتِرٌ، وَلَكِنَّهُمْ بِقَاعٍ صَفْصَفٍ لَا أَمْتَ فِيهِ وَلَا عِوَجَ. وَ"هُمْ" مَنْ قَوْلُهُ: (يَوْمِهِمْ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِمَا بَعْدَهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فَعَلْتُ ذَلِكَ يَوْمَ الْحَجَّاجِ أَمِيرٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا لَمْ تُخْفَضْ هُمْ بِيَوْمٍ وَقَدْ أُضِيفَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: أَضَافَ يَوْمَ إِلَى هُمْ فِي الْمَعْنَى، فَلِذَلِكَ لَا يُنَوَّنُ الْيَوْمَ، كَمَا قَالَ: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} وَقَالَ: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} وَمَعْنَاهُ: هَذَا يَوْمَ فِتْنَتِهِمْ، وَلَكِنْ لَمَّا ابْتَدَأَ بِالِاسْمِ، وَبَنَى عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى جَرِّهِ، وَكَانَتِ الْإِضَافَةُ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْفِتْنَةِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ الْيَوْمُ فِي مَعْنَى إِذْ، وَإِلَّا فَهُوَ قَبِيحٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: لَيْتَكَ زَمَنَ زَيْدٍ أَمِيرٌ: أَيْ إِذْ زَيْدٍ أَمِيرٌ، وَلَوْ قُلْتَ: أَلْقَاكَ زَمَنَ زَيْدٌ أَمِيرٌ، لَمْ يَحْسُنْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الْأَوْقَاتَ جُعِلَتْ بِمَعْنَى إِذْ وَإِذَا، فَلِذَلِكَ بَقِيَتْ عَلَى نَصْبِهَا فِي الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالنَّصْبِ، فَقَالَ: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} فَنَصَبُوا، وَالْمَوْضِعُ خَفْضٌ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ جُعِلَ مَوْضِعَ الْأَدَاةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ، لِأَنَّهُ ظَهَرَ ظُهُورَ الْأَسْمَاءِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعُودُ عَلَيْهِ الْعَائِدُ كَمَا يُعُودُ عَلَى الْأَسْمَاءِ، فَإِنْ عَادَ الْعَائِدُ نُوِّنَ وَأُعْرِبَ وَلَمْ يُضَفْ، فَقِيلَ: أَعْجَبَنِي يَوْمٌ فِيهِ تَقُولُ، لِمَّا أَنْ خَرَجَ مِنْ مَعْنَى الْأَدَاةِ، وَعَادَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ صَارَ اسْمًا صَحِيحًا. وَقَالَ: وَجَائِزٌ فَى إِذْ أَنْ تَقُولَ: أَتَيْتُكَ إِذْ تَقُومُ، كَمَا تَقُولُ: أَتَيْتُكَ يَوْمَ يَجْلِسُ الْقَاضِي، فَيَكُونُ زَمَنًا مَعْلُومًا، فَأَمَّا أَتَيْتُكَ يَوْمَ تَقُومُ فَلَا مُؤْنَةَ فِيهِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، وَقَالَ: وَهَذِهِ الَّتِي تُسَمَّى إِضَافَةٌ غَيْرُ مَحْضَةٍ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ، أَنَّ نَصْبَ يَوْمٍ وَسَائِرِ الْأَزْمِنَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ نَظِيرَ نَصْبِ الْأَدَوَاتِ لِوُقُوعِهَا مَوَاقِعَهَا، وَإِذَا أُعْرِبَتْ بِوُجُوهِ الْإِعْرَابِ، فَلِأَنَّهَا ظَهَرَتْ ظُهُورَ الْأَسْمَاءِ، فَعُومِلَتْ مُعَامَلَتَهَا. وَقَوْلُهُ: {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ} أَيْ وَلَا مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا (شَيْءٌ). وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} وَلَكِنَّهُمْ بَرَزُوا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَسْتَتِرُونَ بِحَبْلٍ وَلَا مَدَرٍ. وَقَوْلُهُ: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} يَعْنِي بِذَلِكَ: يَقُولُ الرَّبُّ: لِمَنِ الْمَلِكُ الْيَوْمَ؛ وَتَرَكَ ذَكَرَ"يَقُولُ" اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ الْوَارِدَةَ بِذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: يَقُولُ الرَّبُّ: لِمَنِ السُّلْطَانُ الْيَوْمَ؟ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُحِيبُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ} الَّذِي لَا مَثَلَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ (الْقَهَّارِ) لِكُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ بِقُدْرَتِهِ، الْغَالِبِ بِعِزَّتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبِرًا عَنْ قِيلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَبْعَثُ خَلْقَهُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِمَوْقِفِ الْحِسَابِ: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} يَقُولُ: الْيَوْمَ يُثَابُ كُلُّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، فَيُوَفَّى أَجْرَ عَمَلِهِ، فَعَامِلُ الْخَيْرِ يُجْزَى الْخَيْرَ، وَعَامِلُ الشَّرِّ يُجْزَى جَزَاءَهُ. وَقَوْلُهُ: {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} يَقُولُ: لَا بَخْسَ عَلَى أَحَدٍ فِيمَا اسْتَوْجَبَهُ مِنْ أَجْرِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَنْقُصُ مِنْهُ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا، وَلَا حُمِلَ عَلَى مُسِيءٍ إِثْمُ ذَنْبٍ لَمْ يَعْمَلْهُ فَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ ذُو سُرْعَةٍ فِي مُحَاسَبَةِ عِبَادِهِ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا؛ ذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَا يَنْتَصِفُ حَتَّى يُقِيلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْحِنَةِ، وَأَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ حِسَابِهِمْ، وَالْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ: وَأَنْذِرَ يَا مُحَمَّدُ مُشْرِكِي قَوْمِكَ يَوْمَ الْآزِفَةِ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنْ يُوَافُوا اللَّهَ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ، فَيَسْتَحِقُّوا مِنَ اللَّهِ عِقَابَهُ الْأَلِيمَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {يَوْمَ الْآزِفَةِ} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فَى قَوْلِهِ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَ: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}. وَقَوْلُهُ: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: إِذْ قُلُوبُ الْعِبَادِ مِنْ مَخَافَةِ عِقَابِ اللَّهِ لَدَى حَنَاجِرِهِمْ قَدْ شَخَصَتْ مِنْ صُدُورِهِمْ، فَتَعَلَّقَتْ بِحُلُوقِهِمْ كَاظِمِيهَا، يَرُومُونَ رَدَّهَا إِلَى مَوَاضِعِهَا مِنْ صُدُورِهِمْ فَلَا تَرْجِعُ، وَلَا هِيَ تَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِهِمْ فَيَمُوتُوا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} قَالَ: قَدْ وَقَعَتِ الْقُلُوبُ فِي الْحَنَاجِرِ مِنَ الْمَخَافَةِ، فَلَا هِيَ تَخْرُجُ وَلَا تَعُودُ إِلَى أَمْكِنَتِهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} قَالَ: شَخَصَتْ أَفْئِدَتُهُمْ عَنْ أَمْكِنَتِهَا، فَنَشِبَتْ فِي حُلُوقِهِمْ، فَلَمْ تَخْرُجْ مِنْ أَجْوَافِهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلَمْ تَرْجِعْ إِلَى أَمْكِنَتِهَا فَتَسْتَقِرُّ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ النَّصْبِ (كَاظِمِينَ) فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: انْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ بَدَلٌ مِنَ الْإِضَافَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا قُلُوبُهُمْ لَدَى حَنَاجِرِهِمْ فِي حَالِ كَظْمِهِمْ. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْقَطْعِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي يَرْجِعُ مِنْ ذِكْرِهِمْ فِي الْقُلُوبِ وَالْحَنَاجِرِ، الْمَعْنَى: إِذْ قُلُوبُهُمْ لَدَى حَنَاجِرِهِمْ كَاظِمِينَ. قَالَ: فَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ قَطْعَهُ مِنَ الْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ (وَأَنْذِرْهُمْ) قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمُ بَيَانُ وَجْهِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: مَا لِلْكَافِرِينَ بِاللَّهِ يَوْمَئِذٍ مِنْ حَمِيمٍ يَحْمِ لَهُمْ، فَيَدْفَعُ عَنْهُمْ عَظِيمُ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا شَفِيعٍ يَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَيُطَاعُ فِيمَا شَفَّعَ، وَيُجَابُ فِيمَا سَأَلَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فَى ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدَ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ} قَالَ: مَنْ يَعْنِيهِ أَمْرُهُمْ، وَلَا شَفِيعَ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: (يُطَاعُ) صِلَةٌ لِلشَّفِيعِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ إِذَا شُفِّعَ أُطِيعَ فِيمَا شَفَعَ، فَأُجِيبَ وَقُبِلَتْ شَفَاعَتُهُ لَهُ. وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} يَقُولُ جَلَّ ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ صِفَةِ نَفْسِهِ: يَعْلَمُ رَبُّكُمْ مَا خَانَتْ أَعْيُنُ عِبَادِهِ، وَمَا أَخْفَتْهُ صُدُورُهُمْ، يَعْنِي: وَمَا أَضْمَرَتْهُ قُلُوبُهُمْ؛ يَقُولُ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِهِمْ حَتَّى مَا يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ، وَيُضْمِرُهُ قَلْبُهُ إِذَا نَظَرَ مَاذَا يُرِيدُ بِنَظَرِهِ، وَمَا يَنْوِي ذَلِكَ بِقَلْبِهِ {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} يَقُولُ: وَاللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- يَقْضِي فِي الَّذِي خَانَتْهُ الْأَعْيُنُ بِنَظَرِهَا، وَأَخْفَتْهُ الصُّدُورُ عِنْدَ نَظَرِ الْعُيُونِ بِالْحَقِّ، فَيُجْزِي الَّذِينَ أَغْمَضُوا أَبْصَارَهُمْ، وَصَرَفُوهَا عَنْ مَحَارِمِهِ حِذَارَ الْمَوْقِفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَسْأَلَتِهِ عَنْهُ بِالْحُسْنَى، وَالَّذِينَ رَدَّدُوا النَّظَرَ، وَعَزَمَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى مُوَاقَعَةِ الْفَوَاحِشِ إِذَا قُدِّرَتْ، جَزَاءَهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ وَاقَدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهَا تُرِيدُ الْخِيَانَةَ أَمْ لَا {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} إِذَا قَدِرْتَ عَلَيْهَا أَتَزْنِي بِهَا أَمْ لَا؟ قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالَّتِي تَلِيهَا؟ قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْزِيَ بِالْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ، وَبِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} قَالَ الْحَسَنُ: فَقُلْتُ لِلْأَعْمَشِ: حَدَّثَنِي الْكَلْبَيُّ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْزِيَ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَبِالْحَسَنَةِ عَشْرًا. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: إِنَّ الَّذِي عِنْدَ الْكَلْبَيِّ عِنْدِي، مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَّا بِحَقِيرٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} قَالَ: نَظَرُ الْأَعْيُنِ إِلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ}: أَيْ يَعْلَمُ هَمَزَهُ بِعَيْنِهِ، وَإِغْمَاضَهُ فِيمَا لَا يُحِبُّ اللَّهُ وَلَا يَرْضَاهُ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} يَقُولُ: وَالْأَوْثَانُ وَالْآلِهَةُ الَّتِي يَعْبُدُهَا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ قَوْمِكَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ شَيْئًا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ: فَاعْبُدُوا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَيَجْزِي مُحْسِنَكُمْ بِالْإِحْسَانِ، وَالْمُسِيءَ بِالْإِسَاءَةِ، لَا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا، فَيَعْرِفُ الْمُحْسِنَ مِنَ الْمُسِيءِ، فَيُثِيبُ الْمُحْسِنَ، وَيُعَاقِبُ الْمُسِيءَ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، الْبَصِيرُ بِمَا تَفْعَلُونَ مِنَ الْأَفْعَالِ، مُحِيطٌ بِكُلِّ ذَلِكَ مُحْصِيهِ عَلَيْكُمْ، لِيُجَازِيَ جَمِيعَكُمْ جَزَاءَهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ: " {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} " بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ بِالْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْكَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَوْ لَمْ يَسِرْ هَؤُلَاءِ الْمُقِيمُونَ عَلَى شِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، الْمُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ مِنْ قُرَيْشٍ، فِي الْبِلَادِ، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} يَقُولُ: فَيَرَوْا مَا الَّذِي كَانَ خَاتِمَةُ أُمَمِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَهُمْ، فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} يَقُولُ: كَانَتْ تِلْكَ الْأُمَمُ الَّذِينَ كَانُوا مَنْ قَبْلِهِمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا، وَأَبْقَى فِي الْأَرْضِ آثَارًا، فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ شِدَّةُ قُوَاهُمْ، وَعِظَمُ أَجْسَامِهِمْ، إِذْ جَاءَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ، وَأَخَذَهُمْ بِمَا أَجْرَمُوا مِنْ مَعَاصِيهِ، وَاكْتَسَبُوا مِنَ الْآثَامِ، وَلَكِنَّهُ أَبَادَ جَمْعِهِمْ، وَصَارَتْ مَسَاكِنُهُمْ خَاوِيَةً مِنْهُمْ بِمَا ظَلَمُوا {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} يَقُولُ: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِذْ جَاءَهُمْ، مِنْ وَاقٍ يَقِيهِمْ، فَيَدْفَعُهُ عَنْهُمْ. كَالَّذِي حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} يَقِيهِمْ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدٌ الْعِقَابِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: هَذَا الَّذِي فَعَلْتُ بِهَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ مِنْ إِهْلَاكِنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فِعْلُنَا بِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ، يَعْنِي بِالْآيَاتِ الدَّالَاتِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى طَاعَتِهِ (فَكَفَرُوا) يَقُولُ: فَأَنْكَرُوا رِسَالَتَهَا، وَجَحَدُوا تَوْحِيدَ اللَّهِ، وَأَبَوْا أَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} يَقُولُ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابِهِ فَأَهْلَكَهُمْ {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدٌ الْعِقَابِ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ ذُو قُوَّةٍ لَا يَقْهَرُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَغْلِبُهُ، وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ، شَدِيدٌ عِقَابُهُ مَنْ عَاقَبَ مِنْ خَلْقِهُ، وَهَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، الْمُكَذِّبِينَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَاحْذَرُوا أَيُّهَا الْقَوْمُ أَنْ تَسْلُكُوا سَبِيلَهُمْ فِي تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجُحُودِ تَوْحِيدِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَيَسْلُكُ بِكُمْ فِي تَعْجِيلِ الْهَلَاكِ لَكُمْ مَسْلَكَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُسَلِّيًا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عَمَّا كَانَ يَلْقَى مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، بِإِعْلَامِهِ مَا لَقِيَ مُوسَى مِمَّنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَمُخَيِّرُهُ أَنَّهُ مُعْلِيهِ عَلَيْهِمْ، وَجَاعِلُ دَائِرَةِ السَّوْءِ عَلَى مَنْ حَادَّهُ وَشَاقَّهُ، كَسُنَّتِهِ فِي مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، إِذْ أَعْلَاهُ، وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُ فِرْعَوْنَ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا}: يَعْنِي بِأَدِلَّتِهِ. {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}: أَيْ عُذْرٍ مُبِينٍ، يَقُولُ: وَحُجَجُهُ الْمُبِينَةُ لِمَنْ يَرَاهَا أَنَّهَا حُجَّةٌ مُحَقِّقَةٌ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مُوسَى {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} يَقُولُ: فَقَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى لِمُوسَى: هُوَ سَاحِرٌ يَسْحَرُ الْعَصَا، فَيَرَى النَّاظِرُ إِلَيْهَا أَنَّهَا حَيَّةٌ تَسْعَى. (كَذَّابٌ) يَقُولُ: يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ رَسُولًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَلَمَّا جَاءَ مُوسَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا، وَذَلِكَ مَجِيئُهُ إِيَّاهُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، مَعَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، بِأَنَّ اللَّهَ ابْتَعَثَهُ إِلَيْهِمْ بِالدُّعَاءِ إِلَى ذَلِكَ {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا} بِاللَّهِ (مَعَهُ) مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ {وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} يَقُولُ: وَاسْتَبْقَوْا نِسَاءَهُمْ لِلْخِدْمَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ}، وَإِنَّمَا كَانَ قَتْلُ فِرْعَوْنَ الْوِلْدَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذَارِ الْمَوْلُودِ الَّذِي كَانَ أُخْبِرَ أَنَّهُ عَلَى رَأْسِهِ ذَهَابُ مِلْكِهِ، وَهَلَاكُ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ كَانَ فِيمَا يُقَالُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مُوسَى نَبِيًّا؟ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِقَتْلِ أَبْنَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ مُوسَى، وَاسْتِحْيَاءِ نِسَائِهِمْ، كَانَ أَمْرًا مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ مِنْ بَعْدِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ مِنْ فِرْعَوْنَ قَبْلَ مَوْلِدِ مُوسَى. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} قَالَ: هَذَا قَتْلٌ غَيْرُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} يَقُولُ: وَمَا احْتِيَالُ أَهْلِ الْكُفْرِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ إِلَّا فِي جَوْرٍ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ، وَصَدٍّ عَنْ قَصْدِ الْمَحَجَّةِ، وَأَخْذٍ عَلَى غَيْرِ هُدَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ) لِمَلَئِهِ: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا فَيَمْنَعُهُ مِنَّا {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} يَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُغَيِّرَ دِينَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِسِحْرِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ: "وَأَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (أَوْ أَنْ) بِالْأَلِفِ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي مَصَاحِفِهِمْ"يَظْهَرُ فِي الْأَرْضِ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَرَفْعِ الْفَسَادِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَسَادَ إِذَا أَظْهَرَهُ مُظْهِرٌ كَانَ ظَاهِرًا، وَإِذَا ظَهَرَ فَبِإِظْهَارِ مَظْهَرِهِ يَظْهَرُ، فَفِي الْقِرَاءَةِ بِإِحْدَى الْقَرَّاءَتَيْنِ فَى ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى صِحَّةِ مَعْنَى الْأُخْرَى. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي: (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ) بِالْأَلْفِ وَبِحَذْفِهَا، فَإِنَّهُمَا أَيْضًا مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا بُدِّلَ إِلَى خِلَافِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ خِلَافَهُ الْمُبْدَلَ إِلَيْهِ الْأَوَّلَ هُوَ الظَّاهِرُ دُونَ الْمُبْدَلِ، فَسَوَاءً عُطِفَ عَلَى خَبَرِهِ عَنْ خَوْفِهِ مِنْ مُوسَى أَنْ يُبَدِّلَ دِينَهُمْ بِالْوَاوِ أَوْ بَأَوْ، لِأَنَّ تَبْدِيلَ دِينِهِمْ كَانَ عِنْدَهُ ظُهُورُ الْفَسَادِ، وَظُهُورُ الْفَسَادِ كَانَ عِنْدَهُ هُوَ تَبْدِيلُ الدِّينِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِنَّ: إِنِّي أَخَافُ مِنْ مُوسَى أَنْ يُغَيِّرَ دِينَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي أَرْضِكُمْ أَرْضِ مِصْرَ، عِبَادَةَ رَبِّهِ الَّذِي يَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُ هُوَ الْفَسَادُ.
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ}: أَيْ أَمْرَكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} وَالْفَسَادُ عِنْدَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ: إِنِّي اسْتَجَرْتُ أَيُّهَا الْقَوْمُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ، مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ عَلَيْهِ، تَكَبَّرَ عَنْ تَوْحِيدِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَطَاعَتِهِ، لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمٍ يُحَاسِبُ اللَّهُ فِيهِ خَلْقَهُ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِمَا أَسَاءَ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِيَوْمِ الْحِسَابِ مُصَدِّقًا، لَمْ يَكُنْ لِلثَّوَابِ عَلَى الْإِحْسَانِ رَاجِيًا، وَلَا لِلْعِقَابِ عَلَى الْإِسَاءَةِ، وَقَبِيحُ مَا يَأْتِي مِنَ الْأَفْعَالِ خَائِفًا، وَلِذَلِكَ كَانَ اسْتَجَارَتُهُ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ خَاصَّةً.
وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ آمَنَ بِمُوسَى، وَكَانَ يُسِرُّ إِيمَانَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} قَالَ: هُوَ ابْنُ عَمِّ فِرْعَوْنَ. وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي نَجَا مَعَ مُوسَى، فَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَتَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ، كَانَ صَوَابًا الْوَقْفُ إِذَا أَرَادَ الْقَارِئُ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}، لِأَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مُتَنَاهٍ قَدْ تَمَّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ الرَّجُلُ إِسْرَائِيلِيًّا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ. وَالصَّوَابُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِمَنْ أَرَادَ الْوَقْفَ أَنْ يَجْعَلَ وَقْفَهُ عَلَى قَوْلِهِ: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} لِأَنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} صِلَةٌ لِقَوْلِهِ: {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} فَتَمَامُهُ قَوْلُهُ: يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ اسْمَ هَذَا الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: جِبْرِيلُ، كَذَلِكَ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ السُّدِّيِّ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ كَانَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، قَدْ أَصْغَى لِكَلَامِهِ، وَاسْتَمَعَ مِنْهُ مَا قَالَهُ، وَتَوَقَّفَ عَنْ قَتْلِ مُوسَى عِنْدَ نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِهِ. وَقِيلِهِ مَا قَالَهُ. وَقَالَ لَهُ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى، وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَلَوْ كَانَ إِسْرَائِلِيًا لَكَانَ حَرِيًّا أَنْ يُعَاجِلَ هَذَا الْقَاتِلَ لَهُ، وَلِمَلْئِهِ مَا قَالَ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى قَوْلِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَنْصِحُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِاعْتِدَادِهِ إِيَّاهُمْ أَعْدَاءَ لَهُ، فَكَيْفَ بِقَوْلِهِ عَنْ قَتْلِ مُوسَى لَوْ وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؟ وَلَكِنَّهُ لِمَّا كَانَ مِنْ مَلَإِ قَوْمِهِ، اسْتَمَعَ قَوْلَهُ، وَكَفَّ عَمَّا كَانَ هَمَّ بِهِ فِي مُوسَى. وَقَوْلُهُ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} يَقُولُ: أَتَقْتُلُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ مُوسَى لِأَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ فَأَنْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ لِمَا وَصَفْتُ. {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} يَقُولُ: وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْآيَاتِ الْوَاضِحَاتِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا يَقُولُ مِنْ ذَلِكَ. وَتِلْكَ الْبَيِّنَاتُ مِنَ الْآيَاتِ يَدُهُ وَعَصَاهُ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ. ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} بِعَصَاهُ وَبِيَدِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} يَقُولُ: وَإِنْ يَكُ مُوسَى كَاذِبًا فِي قِيلِهِ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَتِهِ، وَتَرْكِ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّمَا إِثْمُ كَذِبِهِ عَلَيْهِ دُونَكُمْ {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} يَقُولُ: وَإِنْ يَكُ صَادِقًا فِي قِيلِهِ ذَلِكَ، أَصَابَكُمُ الَّذِي وَعَدَكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَقَامِكُمْ عَلَى الدِّينِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ، فَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إِلَى قَتْلِهِ، فَتُزِيدُوا رَبَّكُمْ بِذَلِكَ إِلَى سُخْطِهِ عَلَيْكُمْ بِكُفْرِكُمْ سُخْطًا {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} يَقُولُ: إِنِ اللَّهَ لَا يُوَفِّقُ لِلْحَقِّ مَنْ هُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى فِعْلِ مَا لَيْسَ لَهُ فَعَلُهُ، كَذَّابٌ عَلَيْهِ يَكْذِبُ، وَيَقُولُ عَلَيْهِ الْبَاطِلَ وَغَيْرَ الْحَقِّ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْإِسْرَافِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُؤْمِنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهِ الشِّرْكَ، وَأَرَادَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُشْرِكٌ بِهِ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ. ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}: مُشْرِكٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالشِّرْكِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِهِ مَنْ هُوَ قَتَّالٌ سَفَّاكٌ لِلدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} قَالَ: الْمُسْرِفُ: هُوَ صَاحِبُ الدَّمِ، وَيُقَالُ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ هَذَا الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ عَمَّ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وَالشَّرَكُ مِنَ الْإِسْرَافِ، وَسَفْكُ الدَّمِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنَ الْإِسْرَافِ، وَقَدْ كَانَ مُجْتَمِعًا فِي فِرْعَوْنَ الْأَمْرَانِ كِلَاهُمَا، فَالْحَقُّ أَنْ يَعُمَّ ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ قَائِلِهِ، أَنَّهُ عَمَّ الْقَوْلُ بِذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ الْمُؤْمِنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي: أَرْضَ مِصْرَ، يَقُولُ: لَكُمُ السُّلْطَانُ الْيَوْمَ وَالْمَلِكُ ظَاهِرِينَ أَنْتُمْ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي أَرْضِ مِصْرَ {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ} يَقُولُ: فَمَنْ يَدْفَعُ عَنَّا بَأْسَ اللَّهِ وَسَطْوَتَهُ إِنْ حَلَّ بِنَا، وَعُقُوبَتَهُ إِنْ جَاءَتْنَا، قَالَ فِرْعَوْنُ {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} يَقُولُ: قَالَ فِرْعَوْنُ مُجِيبًا لِهَذَا الْمُؤْمِنَ النَّاهِي عَنْ قَتْلِ مُوسَى: مَا رَأْيُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنَ الرَّأْيِ وَالنَّصِيحَةِ إِلَّا مَا أَرَى لِنَفْسِي وَلَكُمْ صَلَاحًا وَصَوَابًا، وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ. يَقُولُ: وَمَا أَدْعُوكُمْ إِلَّا إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي أَمْرِ مُوسَى وَقَتْلِهِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَقْتُلُوهُ بَدَّلَ دِينَكُمْ، وَأَظْهَرَ فِي أَرْضِكُمُ الْفَسَادَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقَالَ الْمُؤْمِنُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لِفِرْعَوْنَ وَمَلْئِهِ: يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ بِقَتْلِكُمْ مُوسَى إِنْ قَتَلْتُمُوهُ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى رُسُلِ اللَّهِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِتَجَرُّئِهِمْ عَلَيْهِ، فَيُهْلِكُكُمْ كَمَا أَهْلَكَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} يَقُولُ: يَفْعَلُ ذَلِكَ بِكُمْ فَيُهْلِكُكُمْ مِثْلَ سُنَّتِهِ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَفِعْلِهِ بِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الدَّأْبِ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ، الْمُغْنِيَةِ عَنْ إِعَادَتِهِ، مَعَ ذِكْرِ أَقْوَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ. وَقَدْ حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} يَقُولُ: مِثْلَ حَالِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} قَالَ: مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يَعْنِي قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ، وَقَوْمَ لُوطٍ، وَهْمْ أَيْضًا مِنَ الْأَحْزَابِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} قَالَ: هُمُ الْأَحْزَابُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ الْمُؤْمِنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ: وَمَا أَهْلَكَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَحْزَابَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ ظُلْمًا مِنْهُ لَهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ اجْتَرَمُوهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمَ عِبَادِهِ، وَلَا يَشَاؤُهُ، وَلَكِنَّهُ أَهْلَكَهُمْ بِإِجْرَامِهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ، وَخِلَافِهِمْ أَمْرَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ هَذَا الْمُؤْمِنِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} بِقَتْلِكُمْ مُوسَى إِنْ قَتَلْتُمُوهُ عِقَابَ اللَّهِ {يَوْمَ التَّنَادِ}. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {يَوْمَ التَّنَادِ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: {يَوْمَ التَّنَادِ} بِتَخْفِيفِ الدَّالِّ، وَتَرْكِ إِثْبَاتِ الْيَاءِ، بِمَعْنَى التَّفَاعُلِ، مِنْ تَنَادَى الْقَوْمُ تَنَادِيَا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} وَقَالَ: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ} فَلِذَلِكَ تَأَوَّلَهُ قَارِئُو ذَلِكَ كَذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {يَوْمَ التَّنَادِ} قَالَ: يَوْمَ يُنَادِي أَهْلُ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} يَوْمَ يُنَادِي أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} وَيُنَادِي أَهْلُ النَّارِ أَهْلَ الْجَنَّةِ {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ التَّنَادِ} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنَادِي أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ. وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُوكُرَيْبٍقَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " «يَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُ: انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، فَفَزِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَأْمُرُهُ اللَّهُ أَنْ يُدِيمَهَا وَيُطَوِّلَهَا فَلَا يَفْتَرُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} فَيُسَيِّرُ اللَّهُ الْجِبَالَ فَتَكُونَ سَرَابًا، فَتُرَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا رَجًّا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ اللَّهُ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} فَتَكُونُ كَالسَّفِينَةِ الْمُرْتَعَةِ فِي الْبَحْرِ تَضْرِبُهَا الْأَمْوَاجُ تَكْفَأُ بِأَهْلِهَا، أَوْ كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ بِالْعَرْشِ تَرُجُّهُ الْأَرْوَاحُ، فَتَمِيدُ النَّاسُ عَلَى ظَهْرِهَا، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ، وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ، وَتَشِيبُ الْوِلْدَانُ، وَتَطِيرُ الشَّيَاطِينُ هَارِبَةً حَتَّى تَأْتِيَ الْأَقْطَارَ، فَتَلَقَّاهَا الْمَلَائِكَةُ، فَتَضْرِبُ وُجُوهَهَا، فَتَرْجِعُ وَيُوَلِّيَ النَّاسُ مُدْبِرِينَ، يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ: {يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} ») ". فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ يُنَادِي النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنْ فَزَعِ نَفْخَةِ الْفَزَعِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: "يَوْمَ التَّنَادِّ" بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ، بِمَعْنَى: التَّفَاعُلُ مِنَ النَّدِّ، وَذَلِكَ إِذَا هَرَبُوا فَنَدُّوا فِي الْأَرْضِ، كَمَا تَنِدُّ الْإِبِلُ: إِذَا شَرَدَتْ عَلَى أَرْبَابِهَا. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَذِكْرُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَ بِقِرَاءَتِهِ ذَلِكَ كَذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْأَجْلَحِ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٌ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَمْرَ اللَّهُ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَتَشَقَّقَتْ بِأَهْلِهَا، وَنَزَلَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَحَاطُوا بِالْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا، ثُمَّ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ الرَّابِعَةَ، ثُمَّ الْخَامِسَةَ، ثُمَّ السَّادِسَةَ، ثُمَّ السَّابِعَةَ، فَصَفُّوا صَفًّا دُونَ صَفٍّ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْمَلِكُ الْأَعْلَى عَلَى مُجَنِّبَتِهِ الْيُسْرَى جَهَنَّمُ، فَإِذَا رَآهَا أَهْلُ الْأَرْضِ نَدُّوا فَلَا يَأْتُونَ قُطْرًا مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ إِلَّا وَجَدُوا السَّبْعَةَ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} وَقَوْلُهُ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {يَوْمَ التَّنَادِ} قَالَ: تَنِدُّونَ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: "يَوْمَ التَّنَادِي" بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ تَخْفِيفُ الدَّالِ وَبِغَيْرِ إِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الْحُجَّةُ مُجَمَّعَةٌ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ خِلَافُهَا فِيمَا جَاءَتْ بِهِ نَقْلًا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ يُنَادِي النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، إِمَّا مِنْ هَوْلِ مَا قَدْ عَايَنُوا مِنْ عَظِيمِ سُلْطَانِ اللَّهِ، وَفَظَاعَةِ مَا غَشِيَهُمْ مِنْ كَرْبِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَإِمَّا لِتَذْكِيرِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا إِنْجَازَ اللَّهِ إِيَّاهُمُ الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَاسْتِغَاثَةٍ مِنْ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، مِمَّا لَقِيَ مِنْ عَظِيمِ الْبَلَاءِ فِيهِ. وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} فَتَأْوِيلُهُ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنَ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «يَوْمَ يُوَلُّونَ هَارِبِينَ فِي الْأَرْضِ حِذَارِ عَذَابِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ جَهَنَّم» ". وَتَأْوِيلُهُ عَلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ فِي مَعْنَى {يَوْمَ التَّنَادِ}: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُنْصَرِفِينَ عَنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ إِلَى جَهَنَّمَ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْهُ، وَعَمَّنْ قَالَ نَحْوَ مَقَالَتِهِ فِي مَعْنَى {يَوْمَ التَّنَادِ}. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ. ثَنَا يَزِيدُ قَالَ. ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ}: أَيْ مُنْطَلِقًا بِكُمْ إِلَى النَّارِ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَهُ قَتَادَةُ فِي ذَلِكَ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنَ الْحَقِّ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ. ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ. ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} قَالَ: فَارِّينَ غَيْرَ مُعْجِزِينِ. وَقَوْلُهُ: {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} يَقُولُ: مَا لَكَمَ مِنَ اللَّهِ مَانِعٌ يَمْنَعُكُمْ، وَنَاصِرٌ يَنْصُرُكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ. ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}: أَيْ مِنْ نَاصِرٍ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يَقُولُ: وَمَنْ يَخْذُلُهُ اللَّهُ فَلَمْ يُوَفِّقْهُ لِرُشْدِهِ، فَمَا لَهُ مِنْ مُوَفِّقٍ يُوَفِّقُهُ لَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ يَا قَوْمِ مِنْ قَبْلِ مُوسَى بِالْوَاضِحَاتِ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ} قَالَ: قَبْلِ مُوسَى. وَقَوْلُهُ: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} يَقُولُ: فَلَمْ تَزَالُوا مُرْتَابِينَ فِيمَا أَتَاكُمْ بِهِ يُوسُفُ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ غَيْرَ مُوقِنِي الْقُلُوبِ بِحَقِيقَتِهِ {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} يَقُولُ: حَتَّى إِذَا مَاتَ يُوسُفُ قُلْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ يُوسُفَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا بِالدُّعَاءِ إِلَى الْحَقِّ {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} يَقُولُ: هَكَذَا يَصُدُّ اللَّهُ عَنْ إِصَابَةِ الْحَقِّ وَقَصْدِ السَّبِيلِ مَنْ هُوَ كَافِرٌ بِهِ مُرْتَابٌ، شَاكٌّ فَى حَقِيقَةِ أَخْبَارِ رُسُلِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الْمُؤْمِنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} فَقَوْلُهُ "الذِينَ" مَرْدُودٌ عَلَى"مَنْ" فِي قَوْلِهِ {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: كَذَلِكَ يَضِلُّ اللَّهُ أَهْلَ الْإِسْرَافِ وَالْغُلُوِّ فِي ضَلَالِهِمْ بِكُفْرِهِمْ بِاللِّهِ، وَاجْتِرَائِهِمْ عَلَى مَعَاصِيهِ، الْمُرْتَابِينَ فِي أَخْبَارِ رُسُلِهِ، الَّذِينَ يُخَاصِمُونَ فِي حُجَجِهِ الَّتِي أَتَتْهُمْ بِهَا رُسُلُهُ لِيَدْحَضُوهَا بِالْبَاطِلِ مِنَ الْحُجَجِ {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} يَقُولُ: بِغَيْرِ حُجَّةٍ أَتَتْهُمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ يَدْفَعُونَ بِهَا حَقِيقَةَ الْحُجَجِ الَّتِي أَتَتْهُمْ بِهَا الرُّسُلَ؛ وَ "الذِينَ" إِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ رَدًّا عَلَى"مَنْ". وَقَوْلُهُ: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} يَقُولُ: كَبُرَ ذَلِكَ الْجِدَالُ الَّذِي يُجَادِلُونَهُ فِي آيَاتِ اللَّهِ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ، {وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} بِاللَّهِ؛ وَإِنَّمَا نُصِبَ قَوْلُهُ: (مَقْتًا) لِمَا فِي قَوْلِهِ (كَبُرَ) مِنْ ضَمِيرِ الْجِدَالِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} فَنُصْبُ كَلِمَةً مِنْ نَصْبِهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَ فِي قَوْلِهِ: (كَبُرَتْ) ضَمِيرَ قَوْلِهِمْ: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} وَأُمَّا مَنْ لَمْ يُضْمِرْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ رَفَعَ الْكَلِمَةَ. وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} يَقُولُ: كَمَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُوَحِّدَهُ، وَيُصَدِّقَ رُسُلَهُ. جَبَّارٌ يَعْنِي: مُتَعَظِّمٌ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، خَلَا أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَلَى: {كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} بِإِضَافَةِ الْقَلْبِ إِلَى الْمُتَكَبِّرِ، بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنْ أَنَّ اللَّهَ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِ الْمُتَكَبِّرِينَ كُلِّهَا؛ وَمَنْ كَانَ ذَلِكَ قِرَاءَتَهُ، كَانَ قَوْلُهُ"جَبَّارٍ". مِنْ نَعْتِ"مُتَكَبِّرٍ". وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ ذَلِكَ "كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ". حَدَّثَنِي بِذَلِكَ ابْنُ يُوسُفَ قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهَذَا الَّذِي ذُكِّرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قِرَاءَتِهِ يُحَقِّقُ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِإِضَافَةِ قَلْبٍ إِلَى الْمُتَكَبِّرِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ"كُلِّ" قَبْلَ الْقَلْبِ وَتَأْخِيرَهَا بَعْدَهُ لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى، بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ فِي الْحَالَتَيْنِ وَاحِدٌ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: هُوَ يُرَجِّلُ شِعْرَهُ يَوْمَ كُلِّ جُمْعَةٍ، يَعْنِي: كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ. وَأَمَّا أَبُو عَمْرٍو فَقَرَأَ ذَلِكَ بِتَنْوِينِ الْقَلْبِ وَتَرْكِ إِضَافَتِهِ إِلَى مُتَكَبِّرٍ، وَجَعْلِ الْمُتَكَبِّرِ وَالْجَبَّارِ مِنْ صِفَةِ الْقَلْبِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِإِضَافَةِ الْقَلْبِ إِلَى الْمُتَكَبِّرِ، لِأَنَّ التَّكَبُّرَ فِعْلُ الْفَاعِلِ بِقَلْبِهِ، كَمَا أَنَّ الْقَاتِلَ إِذَا قَتَلَ قَتِيلًا وَإِنْ كَانَ قَتْلَهُ بِيَدِهِ، فَإِنَّ الْفِعْلَ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْقَلْبُ جَارِحَةٌ مِنْ جَوَارِحِ الْمُتَكَبِّرِ. وَإِنْ كَانَ بِهَا التَّكَبُّرُ، فَإِنَّ الْفِعْلَ إِلَى فَاعِلِهِ مُضَافٌ، نَظِيرَ الَّذِي قُلْنَا فِي الْقَتْلِ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَمَا قُلْنَا، فَإِنَّ الْأُخْرَى غَيْرَ مَدْفُوعَةٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَمْنَعُ أَنْ تَقُولَ: بَطَشَتْ يَدُ فُلَانٍ، وَرَأَتْ عَيْنَاهُ كَذَا، وَفَهِمَ قَلْبُهُ، فَتُضِيفُ الْأَفْعَالِ إِلَى الْجَوَارِحِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَصْحَابِهَا.
|